سورة الأنعام - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنعام)


        


{قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)}
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة، كما ثبت في الصحيحين، من طريق الأعْمَش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش، إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي».
وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ} هذه اللام هي الموطئة للقسم، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده المؤمنين، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون.
وقال ابن مَرْدُوَيه عند تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عُقْبَة، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا حسين بن محمد، حدثنا مِحْصَن بن عقْبَة اليماني، عن الزبير بن شَبِيب، عن عثمان بن حاضر، عن ابن عباس قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين، هل فيه ماء؟ قال: «والذي نَفْسِي بيَدِه، إن فيه لماءً، إن أولياء الله ليردون حِياضَ الأنبياء، ويَبْعَثُ الله تعالى سبعين ألف مَلَكٍ في أيديهم عِصِيّ من نار، يَذُودون الكفار عن حياض الأنبياء».
هذا حديث غريب وفي الترمذي: «إن لكل نبي حَوْضًا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة».
ولهذا قال: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي يوم القيامة {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي: لا يصدقون بالمعاد، ولا يخافون شر ذلك اليوم.
ثم قال تعالى {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: كل دابة في السموات والأرض، الجميع عباده وخلقه، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، ولا إله إلا هو، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم.
ثم قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه المستقيم: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ} كَمَا قَالَ {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، والمعنى: لا أتخذ وليًا إلا الله وحده لا شريك له، فإنه فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما ومبدعهما على غير مثال سَبَق.
{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} أي: وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56- 58].
وقرأ بعضهم هاهنا: {وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ} الآية أي: لا يأكل.
وفي حديث سُهَيْل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فانطلقنا معه، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال: «الحمد لله الذي يُطعِم ولا يَطْعَم، ومَنَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسَقانا وكلّ بَلاء حَسَن أبلانا، الحمد لله غير مُودّع ولا مكافَأ ولا مكفور ولا مُسْتَغْنًى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام، وسقانا من الشراب، وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبَصَّرنا من العَمَى، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين».
{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} أي: من هذه الأمة {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} يعني: يوم القيامة.
{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ} يعني: العذاب {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} يعني: فقد رحمه الله {وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} كما قال: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]، والفوز: هو حصول الربح ونفي الخسارة.


{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}
يقول تعالى مخبرًا أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا مُعَقِّب لحكمه، ولا رَادَّ لقضائه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} الآية [فاطر: 2] وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لا مانع لِما أَعْطَيْت، ولا معطِيَ لما مَنَعْتَ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ»؛ ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أي: هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ} أي: في جميع ما يفعله {الْخَبِيرُ} بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق.
ثم قال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أي: من أعظم الأشياء شهادة {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: هو العالم بما جئتكم به، وما أنتم قائلون لي: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي: وهو نذير لكل من بلغه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: {وَمَنْ بَلَغَ} قال من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم- زاد أبو خالد: وكَلّمه.
ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله».
وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر كالذي أنذر.
وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} أي أيها المشركون {أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} كما قال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]، {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}
ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب: إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وببعثه وصفتة، وبلده ومُهَاجَرِه، وصفة أمته؛ ولهذا قال بعد هذا: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: خسروا كل الخسارة، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه.
ثم قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي: لا أظلم ممن تَقَوَّل على الله، فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي: لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.


{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا لهم {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} كما قال تعالى في سورة القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الآية: 62].
وقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي: حجتهم.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس: أي: معذرتهم.
وكذا قال قتادة.
وقال ابن جريج، عن ابن عباس: أي قيلهم.
وكذا قال الضحاك.
وقال عطاء الخراساني: ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
وقال ابن جرير: والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال يا أبا عباس. سمعت الله يقول: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال: أما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا: تعالوا فلنجحد، فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا، فهل في قلبك الآن شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: هذه في المنافقين.
وفي هذا نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]، وهكذا قال في حق هؤلاء: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} كَمَا قَالَ {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر: 73، 74].
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي: يجيؤوك ليسمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئًا؛ لأن الله جعل {عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي: أغطية لئلا يفقهوا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي: صمما عن السماع النافع، فَهُم كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي: مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات، لا يؤمنوا بها. فلا فَهْم عندهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أي: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم.
وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وفي معنى {يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قولان: أحدهما: أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق، وتصديق الرسول، والانقياد للقرآن، وينسأون عنه أي: ويبتعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يتركون أحدًا ينتفع ويتباعدون قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي- صلى الله عليه وسلم-، وينهون عنه.
وكذا قال مجاهد وقتادة، والضحاك، وغير واحد. وهذا القول أظهر، والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير.
والقول الثاني: رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى.
وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار: إنها نزلت في أبي طالب.
وقال سعيد بن أبي هلال: نزلت في عمومة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر. رواه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب القرظي: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي: ينهون الناس عن قتله.
وقوله: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يتباعدون منه {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: وما يهلكون بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وما يشعرون.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8